الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.الفوائد: 1- تنطوي هاتان الآيتان على كثير من الفوائد وقبل الشروع فيها نتحدث عن إشكال ورد فيها وهو جواب إذا وعطف {ثم تاب عليهم} وقد أجاب العلماء عن ذلك بجوابين أولهما أن تكون إذا زائدة فلا تحتاج إلى جواب ويستقيم المعنى والثاني أن تكون ثم زائدة فتكون جملة تاب عليهم هي الجواب ولا يمكن حل الإشكال إلا بافتراض زيادة إحداهما وممن قال بزيادة {ثم} زكريا في حاشيته على البيضاوي، أو غيره فاختاروا زيادة إذا.وهذا ما قاله أبو حيان: وجاءت هذه الجمل في كنف إذا في غاية الحسن والترتيب فذكر أولا ضيق الأرض عليهم وهو كناية عن استيحاشهم ونبوة الناس عن كلامهم وثانيا وضاقت عليهم أنفسهم وهو كناية عن تواتر الهم والغم على قلوبهم حتى لم يكن فيها شيء من الانشراح والاتساع فذكر أولا ضيق المحل ثم ثانيا ضيق الحال فيه لأنه قد يضيق المحل وتكون النفس منشرحة سم الخياط مع الأحباب ميدان.ثم ثالثا لما يئسوا من الخلق عذقوا أمورهم باللّه وانقطعوا اليه وعلموا انه لا يخلص من الشدة ولا يفرجها إلا هو تعالى: {ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون} وإذا إن كانت شرطية فجوابها محذوف تقديره تاب عليهم ويكون قوله ثم تاب عليهم نظير قوله ثم تاب عليهم بعد قوله: {لقد تاب اللّه على النبي} الآية ودعوى أن ثم زائدة وجواب إذا ما بعد ثم بعيد جدا وغير ثابت من لسان العرب زيادة ثم ومن زعم أن إذا بعد حتى قد تجرد من الشرط وتبقى لمجرد الوقت فلا تحتاج إلى جواب بل تكون غاية للفعل الذي قبلها وهو قوله خلفوا أي خلفوا إلى هذا الوقت ثم تاب عليهم ليتوبوا ثم رجع عليهم بالقبول والرحمة كرة أخرى ليستقيموا على توبتهم وينيبوا أو ليتوبوا أيضا فيما يستقبل إن فرطت منهم خطيئة علما منهم أن اللّه تواب على من تاب ولو عاد في اليوم مائة مرة.معنى التوبة:كما اختلف العلماء في معنى توبة اللّه على النبي وسنورد أهم الأوجه التي ارتآها أقطاب المفسرين وعلماء اللغة.أما الزمخشري فنظمها في سلك قوله تعالى: {ليغفر لك اللّه ما تقدم من ذنبك وما تأخر} وقوله: {واستغفر لذنبك} وقال: وهو بعث للمؤمنين على التوبة وانه ما من مؤمن إلا وهو محتاج إلى التوبة والاستغفار حتى النبي ومن معه من المهاجرين والأنصار، وهذا ما جرينا عليه نحن باعتباره منطقيا ومقيسا.أما الجلال وشارحو تفسيره فقد ذهبوا إلى معنى الديمومة في التوبة أي أدام توبته عليهم وقال الشارحون في تعليقهم على ما ذهب اليه الجلال: وهذا جواب عما يقال إن النبي معصوم من الذنب وإن المهاجرين والأنصار لم يقترفوا ذنبا في هذه القضية فبين أن المراد بالتوبة في حق الجميع دوامها لا أصلها وهذا الرأي بادي الاضطراب.أما الخازن فقد ارتأى رأيا كدنا نؤثره حتى على الرأي الأول وهو قوله ومعنى توبته على النبي عدم مؤاخذته بإذنه للمؤمنين في التخلف عنه في غزوة تبوك وهو كقوله: {عفا اللّه عنك لم أذنت لهم} فهو من باب ترك الأفضل لا أنه ذنب يوجب عقابا.وهناك رأي لا يقل وجاهة عما تقدم عبر عنه أصحاب المعاني بقولهم: وهو كلام للتبرك فهو كقوله تعالى: {فأن للّه خمسه} ومعنى هذا أن ذكر النبي بالتوبة عليه تشريف للمهاجرين والأنصار في ضم توبتهم إلى توبة النبي صلى اللّه عليه وسلم كما ضم اسم الرسول إلى اسم اللّه في قوله: {فأن للّه خمسه وللرسول}.{ساعة العسرة}:المراد وقتها لا الساعة الفلكية فالساعة مستعملة في معنى الزمن المطلق كما استعملت الغداة والعشية واليوم كقول زفر بن الحارث الكلابي:فالمراد مطلق الوقت لا العشية على حقيقتها وكقول حاتم الطائي: المراد باليوم مطلق الزمان، وهكذا غالب استعمال العرب، ويلاحظ انه جزم بإذا تشبيها لها بالأدوات التي تجزم فعلين وقد نص النحاة على ورودها كقوله: ولساعة العسرة التي وقعت في غزوة تبوك حوادث نكتفي برواية لعمر بن الخطاب عنها قال: خرجنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى تبوك في قيظ شديد فنزلنا منزلا أصابنا فيه عطش شديد حتى ظننا أن رقابنا ستقطع وحتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ويجعل ما بقي على كبده وحتى إن الرجل كان يذهب يلتمس الماء فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستقطع فقال أبو بكر الصديق: يا رسول اللّه إن اللّه عز وجل قد عوّدك في الدعاء خيرا فادع اللّه قال: «أتحب ذلك؟» فقال الصديق: نعم. فرفع صلى اللّه عليه وسلم يديه فلم ترجعا حتى قالت السماء فأظلمت ثم سكبت فملئوا ما معهم من الأوعية ثم ذهبنا ننظرها فلم نجدها جاوزت العسكر، ومعنى قالت السماء: مالت وسقطت. .[سورة التوبة: الآيات 119- 121] {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِيًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (121)}.اللغة: {مَخْمَصَةٌ}: جوع وفي فعله ثلاث لغات فهو خمص بفتح الميم وكسرها وضمها ومصدره خمص ومخمصة وهو خميص البطن وهي خميصة البطن وهو خمصان وهي خمصانة وهم خماص وهن خمائص ومن المجاز زمن خميص أي ذو مجاعة قال:وكل شيء كرهت الدنو منه فقد تخامصت عنه، قال الشماخ: وتخامص الليل: رقت ظلمته عند وقت السحر، قال الفرزدق: {يَنالُونَ}: في معاجم اللغة: نال خيرا ينال نيلا أصاب، وأصله نيل ينيل من باب فهم والأمر منه نل وإذا أخبرت عن نفسك كسرت النون فتقول: نلت وفي المصباح: نال من عدوه من باب تعب نيلا بلغ منه مقصوده ومنه قيل نال من امرأته ما أراد.{وادِيًا}: الوادي كل منفرج بين جبال وآكام يكون منفذا للسيل وهو في الأصل فاعل من ودى إذا سال ومنه الودي وقد شاع استعمال العرب بمعنى الأرض يقولون: لا تصلّ في وادي غيرك وهو المراد هنا وفي المصباح وودى الشيء إذا سال ومنه اشتقاق الوادي وهو كل منفرج بين جبال أو آكام يكون منفذا للسيل والجمع أودية، وفي القاموس وغيره: ودى يدي وديا ودية القاتل القتيل أعطى وليه ديته وودى الأمر قرّبه وودى الشيء سال ومنه اشتقاق الوادي لأن الماء يدي فيه أي يسيل ويجري والجمع أودية وأوادية وأوداء وأوداه. فما شاع على ألسنة الكتاب من جمعه على وديان خطأ ظاهر. .الإعراب: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} تقدم إعرابها كثيرا.{اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} اتقوا اللّه فعل وفاعل ومفعول به وكونوا عطف على اتقوا والواو اسم كان ومع الصادقين متعلقان بمحذوف خبر كونوا، قالوا أتت بمعنى من أي من الصادقين والذي حملهم على ذلك أنه قرئ شذوذا {وكونوا من الصادقين} ولا داعي لهذا التكلف لأن بقاء مع على معناها أولى والمعنى: كونوا مع المهاجرين والأنصار ووافقوهم وانتظموا في سلكهم.{ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ} ما نافية وكان فعل ماض ناقص ولأهل المدينة خبر كان المقدم ومن عطف على أهل وحولهم ظرف متعلق بمحذوف صلة الموصول ومن الأعراب حال وأن وما في حيزها اسم كان المؤخر وعن رسول اللّه متعلقان بيتخلفوا {وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} الواو عاطفة ويرغبوا يجوز فيه النصب على العطف على أن {لا} نافية والجزم على أن {لا} ناهية، وبأنفسهم متعلقان بيرغبوا والباء للتعدية فقوله رغبت عنه معناه أعرضت عنه والمعنى ولا يجعلوا أنفسهم راغبة عن نفسه، وعن نفسه حال أي عليهم أن يصحبوه على كل حال، وفي البأساء والضراء وأن يكابدوا معه الأهوال ويحتملوا المشاق والمكاره وأن يلقوا أنفسهم من الشدائد ما تلقاه نفسه فكأنه لم يصن نفسه ولم يربأ بها عند ما ناهز الشدائد، وكابد الأهوال فما أجدرهم بالحذو حذوه واقتفاء آثار خطاه.{ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ذلك مبتدأ وبأنهم خبر ولا يصيبهم ظمأ فعل مضارع مرفوع ومفعول به وفاعل ولا نصب ولا مخمصة عطف على ظمأ، وفي سبيل اللّه حال من الهاء أو صفة لمخمصة.{وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ} ولا يطئون عطف على لا يصيبهم وموطئا إما اسم مكان فيعرب مفعولا به أي يدوسون مكانا وإما ظرف فيعرب مفعولا مطلقا وجملة يغيظ الكفار صفة لموطئا.{وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا} عطف على ما تقدم ومن عدو جار ومجرور متعلقان بينالون {إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} إلا أداة حصر وجملة كتب في موضع نصب على الحال فالاستثناء مفرغ من أعم الأحوال وكتب فعل ماض مبني للمجهول ولهم جار ومجرور متعلقان بكتب وكذلك به وعمل نائب فاعل وصالح نعت وإن واسمها وجملة لا يضيع أجر المحسنين خبر إن {وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً} عطف على لا ينالون ونفقة مفعول به أي ولو تمرة فما فوق.{وَلا يَقْطَعُونَ وادِيًا} عطف على ما تقدم.{إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ} الجملة استثنائية من أعم الأحوال كما تقدم ونائب الفاعل محذوف لأنه سبق ذكره أي عمل صالح.{لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ} اللام للتعليل ويجزي فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام والهاء مفعول به أول واللّه فاعل وأحسن مفعول به ثان أو مفعول مطلق بمعنى أي يجزيهم أحسن جزاء، وما موصول مضاف لأحسن وكان واسمها وجملة يعملون خبرها.
|